فصل: تفسير الآيات (42- 45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (42- 45):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإن يُكذبوك} يا مُحمد، أي: أهل مكة، فلا تحزن؛ فلست بأول من كُذب، {فقد كَذَّبت قبلهم} أي: قبل قومك {قومُ نوح} نوحًا، {وعادٌ} هودًا، {وثمودُ} صالحًا، {وقومُ إِبراهيمَ} إبراهيم، {وقومُ لوطٍ} لوطًا، {وأصحابُ مدينَ} شعيبًا، {وكُذِّب موسى}؛ كذَّبه فرعونُ والقبط. ولم يقل: وقوم موسى؛ لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه القبطُ. أو: كأنه لمَّا ذكر تكذيب كلُّ قوم رسولهم، قال: وكُذِّب موسى، مع وضوح آياته وظهور معجزاته، فما ظنك بغيره؟ {فأمليتُ للكافرين}: أمهلتهم وأخرت عقوبتهم، {ثم أخذتُهم}: عَاقَبْتُهم على كفرهم، أي: أخذت كل فريق من فِرَقِ المكذبين، بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله، {فكيف كان نكير} أي: إنكاري وتغييري؛ حيث أبدلتهم بالنعم نقمًا، وبالحياة هلاكًا، وبالعمارة خرابًا، فكان ذلك في غاية ما يكون من الهول والفظاعة.
{فكأيِّن من قريةٍ أهلكناها} أي: كثيرًا من القرى أهلكناها وخربناها بإهلاك أهلها، {وهي ظالمةٌ} أي: والحال أنها ظالمة بالكفر والمعاصي، {فهي خاوية}: ساقطة على {عروشها}، من خوى النجم: سقط. والمعنى أنها ساقطة على سقوفها، أي: خربت سقوفُها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. ويجوز أن يكون {على عروشها}: خبرًا بعد خبر، أي: فهي خالية من السكان، وهي على عروشها، أي: قائمة مشرفة على السقوف الساقطة. {وبئرٍ مُعَطَّلَةٍ} أي: وكم من بئر متروكة مهملة في البوادي والحواضر، لا يستسقى منها؛ لهلاك أهلها مع توفير مائها، {وقصْرٍ مَشيدٍ}: مرفوع البنيان، من شاد البنيان: إذا رفعه، أو مجصّص بالشيد، أي: الجص، أي: مبنيًا بالشيد والجندل.
وقال الضحاك: كانت هذه البئر المعطلة بحضرموت، في بلدة يقال لها: حاضوراء، وذلك أن أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب، أتوا حضرموت، ومعهم صالح، فلما حضروا ذلك الموضع، مات صالح، فسُمي حضرموت؛ لأن صالحًا لما حضره مات، فبنوا حاضوراء، وقعدوا على هذه البئر، فأقاموا دهرًا طويلاً، وتناسلوا حتى كثروا، ثم عبدوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله إليهم نبيًا يقال له: حنظلة بن صفوان، فقتلوه فأهلكهم الله، وعطلت بئرهم وخربت قصورهم. اهـ.
وحاصل المعنى: وكم قرية أهلكناها، وكم بئر عطلناها عن سقاتها، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنه، أي: أهلكنا البادية والحاضرة جميعًا، فخلت القصور عن أربابها، والآبار عن روادها. فالأظهر أن البئر والقصر على العموم.
الإشارة: ما سلّى به الرسل- عليهم السلام- تسلى به الأولياء- رضوان الله عليهم- فتكذيب أهل الخصوصية سُنَّة ماضية، غير أن مُكذبي الرسل يُعاجَلون بالعقوبة، ومكذبي الأولياء يعاقبون بالبعد والحجاب. وقال القشيري: {وبئر معطلة}، الإشارة إلى العيون المفجرة من بواطنهم، {وقصر مشيد}؛ الإشارة إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها، من الهيبة والأنس وسائر المواجيد. اهـ. قلت: وكأنه فسر القرية بالقلب، وهلاكه: خلاؤه من نور التوحيد، فقلوب الغافلين خاوية على عروش عقولهم، المطموس نورها، وعيون بواطنهم معطلة من الفكرة، وأسرارهم خاربة من نور النظرة. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (46- 48):

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)}
قلت: {أفلم}: الفاء عطف على مقدار؛ أي أَغفلوا فلم يسيروا فيعتبروا، {فإنها}: ضمير القصة، أو مبهم يُفسره ما بعده. و{لن يخلف الله وعده}: حالية، أي: ينكرون مجيء العذاب الموعود، والحال: أنه تعالى لا يخلف وعده، أو اعتراضية مُبينة لما ذكر، و{إنَّ يومًا}: استئنافية، إن كانت الأولى حالية، ومعطوفة، إن كانت اعتراضية سيقت لبيان خطئهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أَفَلَمْ يسيروا في الأرض} فيروا مصارعَ من أهلكهم اللهُ بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم الدارسة وقصورهم الخالية، وديارهم الخربة، فيعتبروا. وهو حث لهم على السفر ليشاهدوا ذلك. {فتكون لهم}؛ بسبب ما شاهدوه من مظان الاعتبار ومواطن الاستبصار {قلوبٌ يعقلون بها} ما يجب أن يُعقل من التوحيد ونحوه، {أو آذانٌ يسمعون بها} ما يجبُ أن يُسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورُهم من الناس؛ فإنهم أعرف بحالهم. قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق إهلاك الأمم السالفة، وبقيت آثارهم خرابًا، عقبه بذم هؤلاء في عدم اتعاظهم بذلك. والسير في الأرض: إمَّا حسي، أو معنوي باعتبار سماع أخبارها من الغير، أو قراءتها في الكتب. فقوله: {فتكون لهم قلوب}: راجع للسير الحسي، وقوله: {أو آذان} للسير المعنوي. اهـ.
{فإنها لا تعمى الأبصارُ} الحسية، {ولكن تعمى القلوبُ} عن التفكر والاعتبار، أي: ليس الخلل في مشاعرهم، ولكن الخلل في عقولهم، باتباع الهوى والانهماك في الغفلة. وذكر الصدور؛ للتأكيد، ونفي توهم التجوز؛ لأن قلب الشيء: لبه، فربما يقال: إن القلب يراد به هذا العضو، ولكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه، وعينان في قلبه، وتسمى البصيرة، فإن انفتح ما في القلب، وعمي ما في الرأس؛ فلا يضر، وإن انفتح ما في الرأس وانطمس ما في القلب لم ينفع، والتحق بالبهائم، بل هو أضل.
ثم ذكر علامة عمى القلوب، وهو الاستهزاء بالوعد الحق، فقال: {ويستعجلونك بالعذاب} المتوعد به؛ استهزاء وإنكارًا وتعجيزًا، {ولن يخلف الله وعده} أي: يستعجلون به، والحال أنه تعالى لا يخلف وعده أبدًا، وقد سبق الوعد به، فمن لا يخلف وعده فلابد من مجيئه، ولو بعد حين. {وإِن يومًا عند ربك كألفِ سنةٍ مما تَعدُّون} أي: كيف يستعجلونك بعذاب من يومْ واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم؛ لأن أيام الشدة طُوال. وقيل: تطول حقيقة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «يَدْخُلُ الفُقَرَاءُ الجَنَّةَ قِبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْم، وذَلِكَ خَمْسِمِائِةِ سَنَةٍ»
{وكأيِّن من قريةٍ أمليت لها وهي ظالمةٌ ثم أخذتُها} أي كثيرًا من أهل قرية كانوا ظالمين مثلكم، قد أمهلتهم حينًا وأمليت لهم، كما أمليت لكم، ثم أخذتهم بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال.
والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة. {وإِليَّ المصيرُ} أي: المرجع إليَّ، فلا يفوتني شيء من أمر المستعجلين وغيرهم، أو: إلى حكمي مَرجع الكل، لا إلى غيري، لا استقلالاً ولا شركة، فأفعل بهم ما يليق بأعمالهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: عمى القلوب هو انطماس البصيرة، وعلامة انطماسها أمور: إرسال الجوارح في معاصي الله، والانهماك في الغفلة عن الله، والوقيعة في أولياء الله، والاجتهاد في طلب الدنيا مع التقصير فيما طلبه منه الله. وفي الحِكَم: (اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك). وعلامة فتحها أمور: المسارعة إلى طاعة الله، واستعمال المجهود في معرفة الله، بصحبة أولياء الله، والإعراض عن الدنيا وأهلها، والأنس بالله، والغيبة عن كل ما سواه. واعلم أن البصر والبصيرة متقابلان في أصل نشأتهما، فالبصر لا يُبصر إلا الأشياء الحسية الحادثة، والبصيرة لا تُبصر إلا المعاني القديمة الأزلية، فإذا انطمست البصيرة كان العبد مفروقًا عن الله، لا يرى إلا الأكوان الظلمانية الحادثة. وفي ذلك يقول المجذوب رضي الله عنه.
مَنَ نَظَرَ الكَوْن بِالْكَوْنِ غَرَّهُ في عمى البصيرة ** ومن نظر الكون بالمكون صادق علاج السريرة

وإذا انفتحت البصيرة بالكلية استولى نورها على نور البصر، فانعكس نور البصر إلى البصيرة، فلا يرى العبدُ إلا أسرار المعاني الأزلية، المفنية للأواني الحادثة، فيغيب عن رؤية الأكوان بشهود المكون. وعِلاَجُ انفتاحها يكون على يد طبيب ماهر عارف بالله، يقدحها له بمرود التوحيد، فلا يزال يعالجها بإثمد توحيد الأفعال، ثم توحيد الصفات، ثم توحيد الذات، حتى تنفتح. فتوحيد الأفعال والصفات يُشهد قُرب الحق من العبد، وتوحيد الذات يُشهد عدمه لوجود الحق، وهو الذي أشار إليه في الحكم بقوله: شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق، لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. فيرى حينئذ من أسرار الذات وأنوار الصفات ما لا يراه الناظرون، ويشاهد ما لا يشاهده الجاهلون. وفي ذلك يقول الحلاج:
قلُوبُ العَارفينَ لَهَا عُيُونٌ ** تَرَى مَا لا يُرَى للنَّاظِرِينَا

وأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ ** إلَى مَلَكُوتِ رَبِّ العَالمِينا

وألْسِنَةٌ بأسْرَارٍ تُنَاجِي ** تَغيبُ عن الكِرَامِ الكَاتِبِينا

وقال الورتجبي: الجهال يرون الأشياء بأبصار الظواهر، وقلوبهم محجوبة عن رؤية حقائق الأشياء، التي تلمع منها أنوار الذات والصفات، وأعماهم الله بغشاوة الغفلة وغطاء الشهوة. اهـ.

.تفسير الآيات (49- 51):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قُل} يا محمد: {يا أيها الناس إِنما أنا لكم نذيرٌ مبينٌ} أي: أنذركم إنذارًا مبينًا بما أوحي إليَّ من أخبار الأمم المهلَكة، من غير أن يكون لي دخل في الإتيان بما توعَدُونه من العذاب الذي تستعجلونه. وإنما لم يقل: نذير وبشير، مع ذكر الفريقين بعده؛ لأن الحديث مسوق إلى المشركين فقط. والمراد بالناس: الذين قيل فيهم: {أفلم يسيروا في الأرض}، ووصفوا بالاستعجال، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم؛ زيادة في غيظهم. {فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة} لذنوبهم، {ورزقٌ كريمٌ} أي: حسن، وهي الجنة. والكريم من كل نعيم: ما يجمع فضائله ويجوز كمالاته.
{والذين سَعَوا}، يقال: سَعَى في أمر فلان: إذا أفسده بسعيه، أي: أفسدوا {في آياتنا} أي: القرآن؛ بسعيهم في إبطاله، {معاجزين} أي: مسابقين. وقرأ المكي والبصري: {معجّزين}. بالشد، أي: مُثبطين الناس عن الإيمان. يقال: عاجزه: سابقه؛ لأنَّ كل واحد منهما يطلب عجز الآخر، واللحوق به، فإذا غلبه، قيل: أعجزه وعجزه. والمعنى: سعوا في معناها بالفساد؛ من الطعن فيها، حيث سمُّوها سحرًا وشعرًا وأساطير الأولين، مسابقين في زعمهم وتقديرهم، طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم. {أولئك أصحابُ الجحيم} أي: ملازمو النار الموقودة. وقيل: هو اسم دركة من دركاتها.
الإشارة: الدعاة إلى الله تعالى إنما شأنهم التحذير والتبشير، ثم ينظرون ما يفعل الله في ملكه وخلقه، من هداية أو إضلال، وليس من شأنهم طلب ظهور المعجزات، أو الكرامات، ولا الحرص على هداية الخلق بالكد والاجتهاد، إنما شأنهم التذكير، ويردون الأمر إلى الملك القدير، فلا يتأسفون على من تخلف عنهم.
وكان عليه الصلاة والسلام- يحرص على هداية قومه-، فلما نهاه الحق تعالى عن ذلك، رجع وتأدب بكمال العبودية، وبه اقتدى خلفاؤه من بعده، فكان صلى الله عليه وسلم في أول أمره يتمنى أن ينزل عليه ما يُقارب بينه وبين قومه، لعلهم يتدبرون فيما ينزل عليه فيُسلموا، فقرأ يومًا سُورَةَ النَّجْمِ، فَأُلقِي في مسامعهم ما يدل على مدح آلهتهم، فحزن- عليه الصلاة والسلام- حين نسبوا ذلك له.

.تفسير الآيات (52- 54):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)}
قال ابن عباس وغيره من المفسرين الأولين- رضي الله عنهم-: لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم مباعدة قومه وتوليهم، وشق عليه ذلك تمنى أن يأتيه من الله تعالى ما يُقارب بينه وبين قومه، فجلس يومًا في جمع لهم، فنزلت سورة النجم، فقرأها عليهم، فلما بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى} [النّجْم: 19، 20]، ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العُلى وإنْ شفاعتهم لترجى. اهـ. قلت: بلى، ألقى ذلك في مسامعهم فقط، ولم ينطق بذلك- عليه الصلاة والسلام- فلما سمعت ذلك قريش فرحوا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر السورة، وسجد المسلمون والمشركون، إلا الوليد بن المغيرة، رفع حفنة من التراب وسجد عليه، فقالت قريش: ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أن الله يُحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل محمد لها نصيبًا فنحن معه، فلما أمسى أتاه جبريل. فقال يا محمد؛ ما صنعتَ فقد تلوتَ على الناس ما لم آتك به؟ فحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا، فنزلت الآية؛ تسلية له عليه الصلاة والسلام.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول}، يُوحى إليه بشرع، ويُؤمر بالتبليغِ، {ولا نبيٍّ} يُوحى إليه، ولم يُؤمر بالتبليغ، فالرسول مكلف بغيره، والنبي مقتصر على نفسه، أو الرسول: مَن بُعث بشرع جديد، والنبي: مَنْ قرر شريعة سابقة، ولذلك شبه صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم، فالنبي أعم من الرسول، وقد سئل- عليه الصلاة والسلام- عن الأنبِيَاءِ، فقال: «مِائَةُ أَلْفٍ وأرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ ألْفًا، قِيل: فَكمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟ قال: ثَلاثُمِائةٍ وثلاثَةَ عَشَرَ، جَمًّا غَفِيرًا»
{إِلاَّ إِذا تَمَنَّى}؛ هيأ في نفسه ما يهواه؛ كهداية قومه ومقاربتهم له، {ألقى الشيطانُ في أُمنيته}؛ في تشهيه ما يُوجب حصول ما تمناه، أو مقاربته، كما ألقى في مسامع قريش ما يُوجب مقاربتهم له- عليه الصلاة والسلام- ثم ينسخ الله ذلك. أو {إذا تمنى}: قرأ، كما قال الشاعر:
تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ ** تَمَنَّى دَاوُدَ الزَّبُورَ علَى رِسْلِ

{ألقى الشيطان في أُمنيته}: في قراءته، حين قرأ سورة النجم بعد قوله: {ومناة الثالثة الأخرى}، تلك الغرانيق العُلى، كما تقدم.
قال القشيري: كانت لنبينا صلى الله عليه وسلم سكتات، في خلال قراءته عند قراءة القرآن، عند انقضاء كل آية، فتلفظ الشيطان ببعض الألفاظ، فمن لم يكن له تحصيل توهم أنه من ألفاظ الرسول. اهـ. وقال ابن البنا: التمني هو التلاوة التي يُتمنى فيها، فيتلو النبي وهو يريد أن يفهم عنه معناها، فيلقي الشيطان في فهوم السامعين غير المعنى المراد، وما قال الزمخشري: قرأ تلك الغرانيق العلى، على جهة السهو والغلط، فباطل، لقول الله العظيم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النّجْم: 3، 4]، فهو معصوم من السهو والغلط في تبليغ الوحي. اهـ.
قلت: فتحصل أنه- عليه الصلاة والسلام- لم ينطق بتلك الكلمات قط، لا سهوًا ولا عمدًا، وإنما أُلقيت في مسامع الكفار ليحصل ما تمناه- عليه الصلاة والسلام- من المقاربة. ويدل على هذا أن من حضر من المسلمين لم يسمعوا من ذلك شيئًا. فإذا تقرر هذا علمت أن ما حكاه السلف الصالح من المفسرين وأهل السير من أصل القصة في سبب نزول الآية صحيح، لكنه يحتاج إلى نظر دقيق وتأويل قريب، فلا تَحْسُن المبادرة بالإنكار والرد عليهم، وهم عدول، لاسيما حبر هذه الأمة، وإنما يحتاج اللبيب إلى التطبيق بين المنقول والمعقول، فإن لم يمكن، قدَّم المنقول، إن ثبتت صحته، وحكم على العقل بالعجز. هذا مذهب المحققين من الصوفية- رضي الله عنهم- ونسبة الإلقاء إلى الشيطان أدب وتشريع؛ إذ لا فاعل في الحقيقة سواه تعالى.
{فينسخ اللهُ ما يُلقي الشيطانُ} أي: يَذهب به ويُبطله، أو يُرشد إلى ما يزيحه، {ثم يُحْكِمُ اللهُ آياته} أي: يُثبتها ويحفظها عن لحوق الزيادة من الشيطان، {والله عليمٌ حكيم} أي: عليم بما يوحى إلى نبيه، حكيم في وحيه، لا يدع الباطل يأتيه من بين يديه ولا من خلفه.
ثم ذكر حكمة ذلك الإلقاء، فقال: {ليجعل ما يُلقي الشيطانُ فتنةً} أي: محنة وابتلاء {للذين في قلوبهم مرضٌ}: شك وشرك، {والقاسية قلوبهم}؛ البعيدة من الخير، الخاربة من النور، واليابسة الصلبة، لا رحمة فيها ولا شفقة؛ وهم المشركون المكذبون، فيزدادون به شكًا وظلمة. {وإِنَّ الظالمين} وهم الكفرة المتقدمة، ووضع الظاهر موضع المضمر؛ تسجيلاً عليهم بالظلم، {لفي شقاقٍ بعيد} أي: عداوة شديدة ومخالفة تامة بعيدة عن الحق.
{وليعلم الذين أُوتوا العلم} بالله {أنه} أي: القرآن {الحقُّ من ربك} أي: النازل من عنده {فيُؤمنوا به} أي: بالقرآن {فتُخْبتَ}: تطمئن، أو تخشع {له قلوبُهم} بالانقياد إليه والإذعان لما فيه، {وإِنَّ الله لهادي الذين آمنوا إِلى صراط مستقيم} بالنظر الموصل إلى الحق الصريح، فيتأولوا ما تشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة، ويطلبوا، لما أشكل منه، المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة، حتى لا يلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا وقع التعبير من جانب الحق فكل واحد من المستمعين يسمع ما يليق بمقامه ويقويه فيه. فأهل الباطل يسمعون ما يليق بباطلهم ويمدهم فيه، وأهل الحق يسمعون ما يليق بحقهم ويرقيهم، فأهل الإيمان يسمعون ما يقوي إيمانهم ويزيدهم يقينًا، وأهل الوصول يسمعون ما يليق بمقامهم ويرقيهم فيه، وهكذا. وتأمل قضية الثلاثة الذين سمعوا قائلاً يقول: يا سعترا بري. فسمع أحدهم: اسْعَ تَر بري، وسمع الآخر: الساعة ترى بري، وسمع الثالث: ما أوسع بري، فالأول: طالب للوصول، فقال له: اسع ترى بري، والثاني: سائر مستشرف على الوصول، فقال له: الساعة ترى بري، والثالث: واصل قد اتسع عليه ميدان النعم، فقال له: ما أوسع بري. وكل من قَدِمَ على الأولياء فإنما يسمع حسب ما عنده؛ فمن قَدِمَ عليهم بالميزان لا يسمع إلا ما يُبعده، ومن قَدِمَ بالتصديق والتعظيم لا يسمع ولا يرى إلا ما يُقربه من الكمالات والأنوار. والله تعالى أعلم.